تفسير السعدي
الآيات ١٣٢ - ١٤٠
كان التوحيد لله نعت إبراهيم عليه السلام .
ثم ورثه في ذريته, ووصاهم به, وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم,
حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.
فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصاكم أبوكم بالخصوص, فيجب عليكم كمال الانقياد, واتباع خاتم الأنبياء.
قال: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي: اختاره وتخيره لكم,
رحمة بكم, وإحسانا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه,
حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه.
لأن من عاش على شيء, مات عليه,
ومن مات على شيء, بعث عليه.
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم: {
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } أي: حضورا
{ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي: مقدماته وأسبابه،
فقال لبنيه على وجه الاختبار، ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به:
{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا:
{ نَعْبُدُ إِلَهَكَ.. } فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا،
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
فجمعوا بين التوحيد والعمل.
ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.
ثم قال تعالى:
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي: مضت
{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ }
أي: كل له عمله, وكل سيجازى بما فعله, لا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم, أنكم على ملتهم, والرضا بمجرد القول, أمر فارغ لا حقيقة له،
بل الواجب عليكم, أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها, هل تصلح للنجاة أم لا؟
قل له مجيبا جوابا شافيا:
{ بَلْ } نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: مقبلا على الله, معرضا عما سواه, قائما بالتوحيد, تاركا للشرك والتنديد.
فهذا الذي في اتباعه الهداية, وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.
دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال.
هذه الآية الكريمة اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به
فقوله تعالى: { قُولُوا } أي: بألسنتكم, متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام, المترتب عليه الثواب والجزاء،
فكما أن النطق باللسان, بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر
وفي قوله: { قُولُوا } إشارة إلى الإعلان بالعقيدة, والصدع بها, والدعوة لها, إذ هي أصل الدين وأساسه.
فقوله: { آمَنَّا بِاللَّهِ } أي: بأنه موجود, واحد أحد, متصف بكل صفة كمال
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } يشمل القرآن والسنة
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } إلى آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا, ما نص عليه في الآية, لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار.
:{ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } أي: بل نؤمن بهم كلهم.
وفي قوله: { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ }
.لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، وفي قوله: { مِنْ رَبِّهِمْ } إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سدى ولا هملا.
قال تعالى: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: خاضعون لعظمته, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول, وهو { لَهُ } على العامل وهو { مُسْلِمُونَ } فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - على إيجازها واختصارها - على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات.
أي: فإن آمن أهل الكتاب { بمثل ما آمنتم به } - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل, وجميع الكتب, ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله
{ فَقَدِ اهْتَدَوْا } للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم،
أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية, إلا بهذا الإيمان،
و " الهدى " هو العلم بالحق, والعمل به, وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم, وهو الشقاق الذي كانوا عليه, لما تولوا وأعرضوا،
فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق،
لأنه السميع لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات, العليم بما بين أيديهم وما خلفهم, بالغيب والشهادة, بالظواهر والبواطن،
فإذا كان كذلك, كفاك الله شرهم. وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد.
ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.
الزموا صبغة الله, وهو دينه, وقوموا به قياما تاما, بجميع أعماله الظاهرة والباطنة, وجميع عقائده فيوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره, طوعا واختيارا ومحبة.
فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغة من صبغته
أتى الشيخ بنموذجين للتوضيح
وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ, فقس الشيء بضده،
فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا, أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن, وفعل جميل, وخلق كامل, ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح, ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله, والصبر والحلم, والعفة, والشجاعة, والإحسان القولي والفعلي, ومحبة الله وخشيته, وخوفه, ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود, والإحسان لعبيده،
فقسه بعبد كفر بربه, وشرد عنه, وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة, من الكفر, والشرك والكذب, والخيانة, والمكر, والخداع, وعدم العفة, والإساءة إلى الخلق, في أقواله, وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود, ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما, ويتبين لك أنه لا أحسن صبغة من صبغة الله, وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } بيان لهذه الصبغة, وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة
لأن " العبادة " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال, والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك, حتى يشرعها الله على لسان رسوله،
والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده, في تلك الأعمال، فتقديم المعمول, يؤذن بالحصر.
وقال: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار, ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة .
المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر
فإن خرجت عن هذه الأمور,
كانت مماراة, ومخاصمة لا خير فيها, وأحدثت من الشر ما أحدثت،
فكان أهل الكتاب, يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين, وهذا مجرد دعوى, تفتقر إلى برهان ودليل.
فإذا كان رب الجميع واحدا, ليس ربا لكم دوننا, وكل منا ومنكم له عمله, فاستوينا نحن وإياكم بذلك. فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛
لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء, من غير فرق مؤثر, دعوى باطلة
وتفريق بين متماثلينومكابرة ظاهرة وإنما يحصل التفضيل :
بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده
وهذه الحالة وصف المؤمنين وحدهم,
(فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم)
لأن الإخلاص هو الطريق إلى الخلاص
فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان, بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول, ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول،
ففي هذه الآية, إرشاد لطيف لطريق المحاجة, وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين, والفرق بين المختلفين
قوله: { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } فالله يقول: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا.
و الجواب في غاية الوضوح والبيان حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق.
فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ }
قال: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل قد أحصى أعمالهم, وعدها والتي يجازى عليها.
فيفيد ذلك الوعد والوعيد,
والترغيب والترهيب،
ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام,
أن الأمر الديني والجزائي, أثر من آثارها, وموجب من موجباتها, وهي مقتضية له....
0 التعليقات :
إرسال تعليق