تفسير السعدي
الآيات ١٧٢ - ١٧٣
هذا أمر للمؤمنين خاصة, بعد الأمر العام,
وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي, بسبب إيمانهم,
فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق,
والشكر لله على إنعامه:
باستعمالها بطاعته,
والتقوي بها على ما يوصل إليه،
فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }
فالشكر في هذه الآية:
هو العمل الصالح،
وهنا لم يقل " حلالا " لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة،
ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له.
وقوله { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي:
فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله, لم يعبده وحده,
كما أن من شكره, فقد عبده, وأتى بما أمر به،
ويدل أيضا على أن أكل الطيب, سبب للعمل الصالح وقبوله،
والأمر بالشكر, عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة, ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر, ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.
ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي:
ما مات بغير تذكية شرعية, لأن الميتة خبيثة مضرة, لرداءتها في نفسها, ولأن الأغلب, أن تكون عن مرض, فيكون زيادة ضرر
واستثنى الشارع من هذا العموم, ميتة الجراد, وسمك البحر, فإنه حلال طيب.
{ وَالدَّمَ } أي: المسفوح كما قيد في الآية الأخرى.
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي: ذبح لغير الله, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها,
وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات،
جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله: { طَيِّبَاتِ }
فعموم المحرمات, تستفاد من الآية السابقة, من قوله: { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم.
وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها, لطفا بنا, وتنزيها عن المضر،
ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: ألجئ إلى المحرم, بجوع وعدم, أو إكراه،
{ غَيْرَ بَاغٍ } أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه،
{ وَلَا عَادٍ } أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا،
فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها،
{ فَلَا إِثْمَ } [أي: جناح] عليه،
وإذا ارتفع الجناح الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه،
والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل,
بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه.
فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه.
وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين, وكان الإنسان في هذه الحالة, ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها -
أخبر تعالى أنه غفور, فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال, خصوصا وقد غلبته الضرورة, وأذهبت حواسه المشقة.
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة:
" الضرورات تبيح المحظورات "
فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن.
[فله الحمد والشكر, أولا وآخرا, وظاهرا وباطنا]
شرح الكلمات للجزائري
{ الطيبات }: جمع طيب وهو الحلال.
{ واشكروا لله }: اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته.
{ إن كنتم إياه تعبدون }: إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.
{ حرم }: حظر ومنع.
{ الميتة }: ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.
{ الدم }: المسفوح السائل، لا المختلط باللحم.
{ الخنزير }: حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.
{ وما أهل به لغير الله }: الإِهلال: رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
{ اضطر }: ألجىء وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.
{ غير باغ ولا عاد }: الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي والمعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.
{ الإِثم }: أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
أيسر التفاسير للجزائري
الآيتين الكريمة ١٧٢ - ١٧٣
بعد أن بينت الآية السابقة حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام
حيث سيبوا للآلهة السوائب، وحموا لها الحامات، وبحروا لها البحائر،
نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله ربكم ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم،
ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين،
فإنه تعالى لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى.
ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط أن لا يكون في سفره باغياً على المسلمين ولا عاديا بقطع الطريق عليهم وذلك لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.
هداية الآيتين للجزائري
- الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.
- وجوب شكر الله تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.
- حرمة أكل الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
- جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو { غير باغٍ ولا عاد }.
- أَذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم في أكل السمك والجراد وهُمَا من الميتة، وحرّم أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
آية وحديث تفسر آية ١٧٢
قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَٰلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىٰ يستجاب لذلك؟"رواه مسلم..
غفور رحيم
معنى الغفور
"الغفور" هو الذي يستر العيوب ويستر الذنوب،
مهما بلغ الذنب (مليار أو أكثر)،
مهما بلغ الذنب من الكبر (كعظم السماوات أو أكبر)،
ومهما تكرر من العبد وأراد الرجوع إلى الرب،
فإن باب المغفرة مفتوح في كل وقت،
لأن الغفور هو الذي يقبل ستر الذنب والمسامحة فيه مرة بعد مرة بلا نهاية لأن الله بلا نهاية...
الرحيم
الرحيم من يرحم خلقه برحمته
الرَّحِيمُ : لطف وعطف خاص بمن يستحق الرعاية والعناية .
وفي معنى الرحيم : تجلي الرحمة وحقيقتها للعباد المؤمنين ، وهو أخص من معنى الرحمان العام بنزول بركته لكل ما خُلق
وهو يتجلى بعد توجه المؤمن لله فيخصه بالتوفيق للطاعة ، وهو الهدى بعد الاهتداء
وهو خاص بالمؤمنين فيعمهم دنيا وآخرة .
ورد في القرآن ١١٤ مرة
والله عز وجل سبقت رحمته غضبه كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال :-
( لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي )
الله سبحانه (كتب على نفسه الرحمة .)
0 التعليقات :
إرسال تعليق