{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }
{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }
تفسير السعدي
الآيتين ١٢٤ - ١٢٥
قصة إبراهيم عليه السلام
يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته,
الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه,
بل وكذلك المشركون:
أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده,
ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان
من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه،
وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام. فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا
فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }
أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون,
وأعلى مقام, شمر إليه العاملون,
وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله.
همم تناطح السحاب
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته,
لتعلو درجته ودرجة ذريته،
وهذا أيضا من إمامته
ونصحه لعباد الله,
ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون،
فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال:
{ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام آلته الصبر واليقين،
ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلاق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة،
فأين الظلم وهذا المقام؟
ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها
ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم,
وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام,
حاطا للذنوب والآثام.
وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته
فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي:
مرجعا يثوبون إليه لحصول منافعهم الدينية والدنيوية,
يترددون إليهولا يقضون منه وطرا
{ و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام,
ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه،
فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما.
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة،
وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف,
يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين،
ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطووالوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.
فيكون معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا,
أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما,
وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
أي: المصلين،
قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]،
ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا،
ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها:
أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك.
ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.
شرح الكلمات للجزائري
{ ابتلى }: اخْتَبَره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
{ بكلمات }: متضمنة أوامر ونواهي.
{ أتمهن }: قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتممها.
{ إماماً }: قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
{ الظالمين }: الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
{ البيت }: الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
{ مثابة }: مرجعاً يثوب إليه العُمَّارُ والحجاج.
{ أمناً }: مكاناً آمناً يأمن فيه كل من دخله.
{ مقام ابراهيم }: الحجر الذي كان قد قام عليه ابراهيم أيام كان يبيني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
{ مصلى }: مكان يصلى فيه أو عنده أو إليه.
{ عهدنا }: وصينا وأمرنا.
{ تطهير البيت }: تنزيهه عن الأقذار
الحسية كالدماء والأبوال
ومعنوية كالشر والبدع والمفاسد.
أيسر التفاسير للجزائري
الآيتين ١٢٤ - ١٢٥
بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذا المشككين في الآيات السابقة لهذه الآية:
أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام
بما كّلفه به من أوامر ونواهي فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام
وهو أنه جعله إماماً للناس
ومن أبرز تلك التكاليف :
وقوفه في وجه الوثنيين،
وتحطيم أوثانهم،
والهجرة من ديارهم
والهم بذبح ولده إسماعيل قرباناً لله،
وبناء البيت، وحجة والدعوة إليه
مما استحق به الإمامة للناس كافة
وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة
العرب المشركين واليهود والنصارى
إذ كلهم يدعي انتماءه لإِبراهيم والعيش على ملته
فها هو ذا إبراهيم :
موحد وهم مشركون،
عادل وهم ظالمو،
مُتّبَعٌ للوحي الإِلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون
وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإِمامة فى ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته كما رغب
واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها
فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة
لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.
ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معاً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام،
ومآثره الطيبة الحميدة، ومواقفه الإِيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذباً وزوراً
إذ هو موحد وهم مشركون
وهو مؤمن وهم كافرون
فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس يثوبون إليه في كل زمان حجاجاً وعماراً،
وأمناً دائماً من يدخله أمن على نفسه وماله وعرضه.
وقلنا لمن حجوا البيت أو أعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فكان مِن سنةِ مَنْ طاف بالبيت من كل رجس معنوياً كالأصنام وعبادة غير الله تعالى أو حسياً كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون والمصلون من أداء هذه العبادات بلا أي أذىً يلحقهم أو يضايقهم.
هداية الآيتين للجزائري
- الإمامة لا تنال إلا بصحة اليقين والصبر على سلوك سبيل المهتدين.
- مشروعية ولاية العهد، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإِيمان والعلم والعمل والعدل والصبر.
- القيام بالتكاليف الشرعية قولاً وعملاً يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.
-منة الله تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمناً توجب حمد الله على كل مؤمن.
- سنة صلاة ركعتين خلف المقام لمن طاف بالبيت.
- وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع وساجد.
حديث
عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (( وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث -
قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "
وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب،
قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، أو ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " (5-التحريم).
0 التعليقات :
إرسال تعليق